تقوم مكانس شفط متناهية الصغر داخل الخلية بإزالة الپروتينات البالية والتالفة والعضيات المعطوبة والكائنات الدقيقة الغازية، وذلك حفاظا على سلامة هذه الخلية وصحتها. وإذا أمكن الإبقاء على هذه العملية، التي تُسمى autophagyالبلعمة الذاتية
وهي تعمل جيدا، فقد يؤدي ذلك إلى تأخير الشيخوخة
نفسها.
مفاهيم أساسية:
في داخل سيتوبلازم الخلية الحية هناك عضيات تُسمى
autophagosomes «جسيمات البلعمة الذاتية»
تبتلع باستمرار أجزاء من السيتوبلازم مع الأجزاء المحطمة من الخلية، وكذلك البكتيرات وال?يروسات الغازية. ويُحمل نتاج الكنس إلى عضيات هاضمة من أجل تكسيرها وتدويرها أو إعادة استخدامها. تُسمى هذه العملية البلعمة الذاتية.ء
يدرس علماء الخلية البلعمة الذاتية وتفاصيلها الكثيرة عن طريق متابعة الإشارات الصادرة عن الپروتينات التي تقود هذه العملية وتتحكم فيها.
يفتح فهم أكبر لعملية البلعمة الذاتية المجال لاختيارات جديدة لعلاج السرطان والأمراض المعدية واضطرابات الجهاز المناعي وذبول الذاكرة، وحتى ربما يوما ما تساعد على إبطاء الشيخوخة.
بين فينة وأخرى يدرك علماء الأحياء أن ما كان يُعَد في وقت مضى عملية خلوية تافهة وغامضة نسبيا، هو في الحقيقة عملية ذات أهمية مركزية؛ ليس فقط في كونها أبدية ـ موجودة في كل مكان وفي أي وقت، وإنما هذا الوجود جعلها أيضا تؤدي دورا في نطاق أوسع من الحالات الطبيعية والمرضية. وهكذا كان الحال مع اكتشاف دور أكسيد النيتريك في الجهاز الدوراني(1)، الذي قاد صاحبه إلى جائزة نوبل؛ كما قاد أيضا إلى اكتشاف الكثير من الأدوية المفيدة. وحاليا ثمة عملية كانت في السابق غامضة وتُعرف بالبلعمة الذاتية استأثرت فجأة بانتباه علمي غير عادي.
والبلعمة الذاتية (وتعني في الإغريقية الالتهام الذاتي) هي بصورة أساسية عملية بسيطة. فداخل كل خلية، ولكن خارج النواة، يوجد السيتوبلازم،
skeletal matrix وهو نوع من الهلام العديم الشكل مدعوم بلحمة هيكلية
تعلق فيه مجموعة كبيرة من الجزيئات الكيميائية الكبيرة المعقدة التركيب
وكذلك وحدات
متخصصة الوظائف تُسمى العضيات2
وعمل السيتوبلازم معقد جدا ـ وهو يشبه إلى حد ما بعض الأنظمة الحاسوبية الحالية، إذ يلتصق بصورة دائمة مع مخلفات عملياته الحياتية. والبلعمة الذاتية، هي جزئيا عملية نقل للنفايات تتمكن بها الخلية ـ ذات السيتوبلازم المتخثر ببقايا قديمة من الپروتينات ومخلفات أخرى غير مرغوب فيها ـ من تنظيف نفسها
وتجديد السيتوبلازم يمكن أن يعطي حياة جديدة لأي خلية، ولكن هذه العملية مهمة بشكل خاص للخلايا العصبية (العصبونات) التي لا تُستبدل. فالعصبون، الذي يجب أن يعيش مادام الكائن الذي يعوله حيا، لا يمتلك عمليا طرقا أخرى لتجديد نفسه والمحافظة على عملياته. وقد انتهى علماء الخلية إلى أن البلعمة الذاتية عمل دفاعي ضد ال?يروسات والبكتيرات(3) الضارة. وأي جسم أو كائن غريب يغزو الجهاز المناعي خارج الخلية ويشق طريقه عبر الغشاء الخلوي إلى السيتوبلازم، يصير هدفا محتملا لمنظومة البلعمة الذاتية
وبالصيغة نفسها، عندما تعمل البلعمة الذاتية ببطء شديد أو بسرعة كبيرة أو تُصاب بخلل ما، فإن التداعيات يُمكن أن تكون وخيمة حقا. ربما تكون منظومات البلعمة الذاتية معطوبة عند الملايين الكثيرة من البشر الذين يعانون مرض كرون Crohn،
وهو شكل من مرض التهاب الأمعاء؛ بحيث لا يمكنها أن تحافظ على نمو الفلورا الميكروبية في القناة الهضمية بصورة منضبطة. وانهيار منظومة البلعمة الذاتية في عصبونات الدماغ ارتبط مع مرض ألزهايمر، إضافة إلى ارتباطه بالشيخوخة نفسها.
well-oiled وأيضا فإن منظومة البلعمة الذاتية الجيدة
يمكن أن تكون ضارة عن طريق تمكين الخلايا السرطانية التي تتعرض لموجة من الإشعاع أو جرعة سامة من العلاج الكيمياوي، من البقاء وإصلاح نفسها، وبذلك تحمي مرض السرطان وتديمه. وفي بعض الأحيان، يُمكن للبلعمة الذاتية أن تتخلص من خلية مريضة من أجل المصلحة الأكبر للكائن، ولكنها قد تتشدد في ذلك فتستهلك هذه الخلية، حتى عندما لا يكون ذلك في مصلحة الكائن
وفي العقد الماضي، تمكن الباحثون من معرفة تفاصيل كثيرة عن كيفية عمل منظومة البلعمة الذاتية. ومثل هذه التبصرات مهمة، ليس فقط لأنها عززت الفهم الأساسي عن كيفية عمل الخلايا، وإنما لإمكانها أيضا أن تقود إلى تصميم أدوية يُمكن، حسب الحاجة، أن تحث منظومة البلعمة الذاتية على الإثارة أو التهدئة. إن التحكم في سرعة العملية وأيضا في الأهداف النوعية لنشاطاتها قد يكون له منافع علاجية هائلة، حتى إنه قد يساعد على معالجة بعض الانخفاض في وظائف المخ مع التقدم في العمر.
فرقة الإنقاذ تحولت
إلى طاقم تنظيف
استعمل البيولوجيون (علماء الأحياء) مصطلح البلعمة الذاتية لوصف عمليات مترابطة عدة
ولكننا نعني بها نوعا من التنظيف المعروف تقنيا بالبلعمة الذاتية الكبرى macroautophagy
التي دُرست حاليا بدقة أكثر. تبدأ العملية عندما تكون الپروتينات المتنوعة والدهون صفائح من غشاء ذي طبقتين في السيتوبلازم تلتف صفائح الغشاء على نفسها لتكون كرية مفتوحة النهاية، وهذه ببساطة تلتهم أجزاء من السيتوبلازم وكل ما هو موجود داخل هذه الأجزاء
phagophore هذه الكرية المسماة طليعة البلعمة
تقفل نفسها بإحكام وتتحول إلى حويصلة تُعرف بجسيم البلعمة الذاتية autophagosome
وبشكل عام ينقل جسيم البلعمة الذاتية حمولته إلى جسيم التحلل lysosome، وهو نوع من أمكنة تصنيع النفايات داخل السيتوبلازم. ونموذجيا autolysosomeتلتحم العضيتان لتكونان جسيم التحلل الذاتي
بحيث يعطي جسيم البلعمة الذاتية حمولته إلى العصارات الهاضمة لجسيم التحلل. ويعاد تدوير القطع الجزيئية النافعة، التي بقيت بعد عملية الهضم داخل السيتوبلازم
وعلى وجه العموم، تم تعرف هذه العملية على أنها نشاط خلوي جارٍ، وذلك على الأقل منذ ستينات القرن الماضي، عندما قام <Ch.دي دوف> وآخرون [من جامعة روكفلر] بدراستها بالميكروسكوب (المجهر) الإلكتروني. ومنذ عشرة أعوام، بدأ أحدنا (كليونسكي) مع آخرين (وبالخصوص <Y.أوسومي> ومساعديه في المعهد القومي للبيولوجيا الأساسية في أوكازاكي ـ اليابان) بدراسة جوانب البيولوجيا الجزيئية لعملية البلعمة الذاتية في الخميرة، إذ هي إلى حد بعيد أبسط من دراستها في الحيوانات العليا. تلك الاستراتيجية كشفت الكثير من التفاصيل المحيرة لعملية البلعمة الذاتية؛ لأن كثيرا من الپروتينات التي تسهم في العملية أو تنظمها، هي في الحقيقة مطابقة لنظيراتها في البشر؛ أي إنها لم تتغير إلا قليلا عبر الارتقاء والتطور
وربما ارتقت البلعمة الذاتية نفسها استجابةً لجوع الخلية أو لدفاع مناعي بدائي أو لكلا الأمرين. ولتقدير الحاجة إلى الاستجابة للجوع، علينا أن نفكر فيما يحدث عندما يُحرم كائن حي كامل من الطعام. لو أن شخصا ما قُيد حصوله على الطعام، لا تقف وظائف البدن فورا ويموت، ولكن يبدأ البدن بتكسير مخزونه الغذائي واستخدامه. ويبدأ التحلل بخلايا الدهن أولا، وتستمر العملية حتى تصل إلى خلايا العضلات نفسها، التي تقوم بتغذية عملية الاستقلاب بالوقود الضروري لاستمرار العمليات الحيوية
وبالمثل، فعندما تجوع الخلايا، فإنها أيضا تحلل أجزاء من ذاتها للمحافظة على النشاطات الأساسية. وجسيمات البلعمة الذاتية ناشطة باستمرار، سواء كانت الخلية جائعة أو لا، وتلتهم أجزاء من السيتوبلازم، وهكذا بالتكرار يتجدد الكثير من المحتوى السيتوبلازمي. ولكن هناك أنواعا من الضغوط ـ وسنسمي بعضها، كالجوع وغياب عوامل النمو ونقص الأكسجين ـ تعطي الخلية إشارة لتسريع تجميع جسيمات البلعمة الذاتية. ولذلك، عندما تكون المغذيات نادرة، فإن عملية البلعمة الذاتية تتعاظم، وتكسح جسيمات البلعمة الذاتية السيتوبلازم بحثا عن الپروتينات والعضيات (بصرف النظر، على ما يبدو، عن وضعها الوظيفي) التي يمكن هضمها وتحويلها إلى مغذيات وطاقة لتستخدمها الخلية.
وإذا كانت البلعمة الذاتية قد نشأت ولو جزئيا استجابةً للجوع، فإن وظيفتها كربة منزل صارت حيوية للخلية منذ مدة طويلة. وحتى عندما يفيض الغذاء، فإن جسيمات البلعمة الذاتية تساعد على تخليص الخلية من أنواع مختلفة من المقيمين في السيتوبلازم غير المرغوب فيهم. فالپروتينات، مثلا، التي تقوم بجميع أعمال الخلية، تُجمع أحيانا معا بالخطأ ويمكن أن تبلى مع الزمن. ونتيجة لذلك، فإنها قد لا تقوم بوظيفتها، والأسوأ أن تخطئ في أداء وظيفتها. ولو حدث ذلك، وجب عزلها قبل أن تحدث مشكلة. ولهذا تحافظ البلعمة الذاتية المستمرة على تراكيز الپروتينات عند مستويات منخفضة.
وجسيمات البلعمة الذاتية لا تزيل فقط الپروتينات المحطمة، وإنما تبحث أيضا عن العضيات المحطمة والأكبر من الپروتينات عدة مرات، ثم تفصلها وتعزلها. مثلا، الميتوكوندرات(4) (المتقدرات) هي عضيات مسؤولة مبدئيا عن توليد الطاقة داخل الخلية، وبإمكانها أن ترسل إشارات إلى أجزاء أخرى من الخلية apoptosisللبدء بعملية الانتحار الخلوي
وتحث الخلايا عملية الانتحار لأسباب متنوعة، وجميعها تقريبا للصالح الأكبر للكائن. وعلى سبيل المثال، يولد الجسم باستمرار خلايا أكثر من حاجته، وتلك الزائدة يجب التخلص منها. والخلية المعمرة التي توقفت عن أداء مهمتها بكفاءة، ربما تقتل نفسها لتترك المجال للخلايا الشابة الأكثر قوة وقدرة على العمل. والخلية التي تتحول عن النمو الطبيعي إلى التكاثر السرطاني، يمكن أن تحث أيضا على الانتحار. وبذلك يكون الانتحار الخلوي أحد أهم الموانع الذاتية ضد السرطان. ويعتمد انتحار الخلايا على سلسلة معقدة من الأحداث الخلوية، التي ينسقها ويقودها بصرامة الكثير من إشارات الپروتين. وبناء على ذلك، يُعد الانتحار الخلوي حدثا مبرمجا
لكن بإمكان ميتوكوندرات معطوبة أن تسبب فوضى عارمة لو أنها حركت عملية الانتحار الخلوي في الوقت الخطأ
ومن بين النواتج الثانوية للميتوكوندرات القائمة بوظيفتها، أنواع من الأكسجين التفاعلي (ROS) ـ أيونات الأكسجين وشظايا جزيئية أخرى مبنية على الأكسجين. والعمل بمثل هذه الكيمياويات المتطايرة يدفع عادة الميتوكوندرات لتسريب بعض محتوياتها، متضمنة الپروتينات الباعثة للإشارات التي تحث على بدء الانتحار الخلوي. وبكلمات أخرى، إن أي خلل بسيط في جزء صغير من الخلية قد يؤدي، في غفلة، إلى موت كامل الخلية. والنهاية العارضة لبعض خلايا الجلد ربما لا تمثل أمرا مهما، لكن مثل هذا الفقد لعصبونات الذاكرة في المخ سيقود بالتأكيد إلى مشكلة.
إن البلعمة الذاتية هي ضمان ضد مثل هذا الخطر المدمر، وباستطاعة جسيمات البلعمة الذاتية إزالة الميتوكوندرة المعطوبة وأنواع أخرى من العضيات من السيتوبلازم، والتأكد من تحطمها بوساطة إنزيمات التحلل في جسيمات التحلل الذاتي، قبل أن يكون بإمكانها التسبب بالموت غير المبرمج للخلية أو منع الأسوأ
necrosisوهو موت الخلايا غير المنظم والمعروف بالتنخر
تعليق